مجلة بريطانية: جائحة "كوفيد-19" أعطت الاقتصاديين فرصة أخرى للتعلم من أخطائهم

مجلة بريطانية: جائحة "كوفيد-19" أعطت الاقتصاديين فرصة أخرى للتعلم من أخطائهم

كان عالم الفيزياء الحائز جائزة نوبل، ماكس بلانك، يجادل بأن الأفكار الجديدة في مجاله لن تنتشر إلا بعد زوال المدافعين عن الأفكار القديمة، قائلا: يتقدم العلم بجنازة واحدة في كل مرة، وبقليل من التكيف كان بوسعه أن يقول، إن الاقتصاد يتقدم في كل أزمة على حدة، على سبيل المثال وفر "الكساد العظيم" تربة خصبة يمكن أن تنمو فيها نظريات جون ماينارد كينز.

وأدى "التضخم الكبير" في السبعينيات إلى انتشار أفكار ميلتون فريدمان النقدية، وحفزت "الأزمة المالية العالمية" في الفترة 2007- 2009 الاهتمام بالائتمان والخدمات المصرفية.

ووفقا لمجلة "الإيكونوميست" البريطانية، فإن التعافي من جائحة كوفيد-19 أعطى الاقتصاديين فرصة أخرى للتعلم من أخطائهم، وفي هذا، تقدم الأوراق البحثية التي تم تقديمها في المؤتمر الأخير للجمعية الاقتصادية الأمريكية (aea) أدلة حول النظريات التي قد تصبح في نهاية المطاف الحكمة المقبولة للجيل القادم.

ويلقي أحد هذه الأبحاث نظرة فاحصة على منحنى فيليبس، الذي يصف المفاضلة النظرية بين البطالة والتضخم، ووفقاً لهذا المنطق، عندما تكون البطالة منخفضة، فإن التضخم يجب أن يكون أعلى لأن المنافسة على العمال تفرض ضغوطاً تصاعدية على الأجور، وهذا من شأنه أن يرفع أسعار المستهلك.

ومع ذلك، خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدا أن المنحنى قد اختفى، وواصلت البطالة انخفاضها لكن التضخم ظل هادئا، ثم، بعد الجائحة، بدت العلاقة فجأة وكأنها تعيد ممارسة نفسها: ارتفع التضخم بالسرعة التي انخفضت بها البطالة.

وفي مؤتمر (aea)، اقترح جاوتي إيجيرتسون من جامعة براون أن إضافة نقطة الالتواء إلى منحنى فيليبس قد ينقذ هذا المفهوم، والفكرة هي أنه عند نقطة معينة -عندما يتم توظيف آخر عامل متاح- تصبح العلاقة بين التضخم والبطالة فجأة غير خطية.

وقال أمام المؤتمر: "بينما تقوم بتوظيف جميع الأشخاص، فإنك تصل إلى الحد الأقصى لمستوى التوظيف.. هناك طريق واحد فقط للذهاب إليه"، وبعد هذه النقطة، لم يعد التضخم يرتفع بسلاسة مع انخفاض البطالة، بل يرتفع بدلاً من ذلك.

يمكن أن تفسر مشكلة "إيجيرتسون" غياب التضخم في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وعودته المفاجئة في عام 2021، ولفهم كيف تلاشى التضخم في الآونة الأخيرة دون ارتفاع في البطالة، يقترح دراسة كيفية تفاعل سوق العمل الضيق مع انقطاع العرض.

وتؤدي ندرة المواد والمكونات إلى تفاقم نقص العمالة، وندرة العمال تمنع الشركات من زيادة الإنتاج واستخدام العمالة كبديل للمدخلات الأخرى، ومع تراجع نقص العرض، اتخذت هذه العملية اتجاهًا عكسيًا، وهكذا تراجع التأثير التضخمي الناجم عن ضيق سوق العمل دون أن يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة.

وتشير دراسة أخرى قدمتها ستيفاني شميت جروهي، من جامعة كولومبيا، إلى أن جزءًا من الارتباك حول منحنى فيليبس، نشأ لأن التضخم العظيم يلوح في الأفق بشكل كبير للغاية في أذهان الاقتصاديين، وشدد عمل فريدمان على الدور الذي لعبته توقعات التضخم خلال تلك الفترة، حين فقد العمال والشركات الثقة في استعداد محافظي البنوك المركزية لمكافحة ارتفاع الأسعار، ثم جاءت الحلقة المفرغة حيث أدى ارتفاع التضخم إلى تغذية التوقعات بارتفاع الأسعار في المستقبل، والتي أصبحت بعد ذلك ذاتية التحقق.

لكن تجربة السبعينيات كانت بعيدة عن أن تكون نموذجية، كما تشير "جروهي" وبالعودة إلى الوراء، إلى حالات متكررة من ارتفاع التضخم الأمريكي فجأة، ثم انخفاضه فجأة.

ووقعت إحدى هذه الأحداث وسط جائحة الإنفلونزا الإسبانية، بدءا من عام 1918، وفي ذلك العام ارتفع التضخم السنوي إلى 17%، ولكن بحلول عام 1921، تحول الأمر إلى الانكماش، مع انخفاض الأسعار بنسبة 11%.

ولنتأمل هنا بيانات من القرن العشرين بأكمله، وليس فقط النصف الثاني منه، فستجد أن تلاشي أحدث موجة من التضخم أقل إثارة للدهشة إلى حد كبير، وتشير "جروهي" إلى أن الصدمات التي تضرب الاقتصاد الآن -مثل تغير المناخ والصراعات والأوبئة- تعني العودة إلى التقلبات الأكبر التي كانت موجودة في العصور السابقة.

وفي الوقت نفسه، يحاول آخرون تحسين نماذج الاقتصاد الكلي، وقد مثلت هذه تقليديا الإنتاج على أنه يحدث في قطاع واحد -توظيف العمال، واستئجار رأس المال، وإنتاج الناتج- الذي يتعرض لصدمات العرض والطلب.

ويقترح إيفان ويرنينج، من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بدلا من ذلك النظر في مجموعة من القطاعات المختلفة، كل منها يتعرض لمثل هذه الصدمات بطريقته الخاصة، وبالتالي فإن التحدي الذي يواجه السياسة النقدية يتمثل في السيطرة على التضخم دون إعاقة عملية إعادة التوزيع الضرورية للعمالة بين القطاعات.

ولم يتكيف هذا الوضع مع التحول في الطلب من الخدمات إلى السلع فحسب، بل أيضاً مع تعطل سلسلة التوريد، وصدمات الطاقة، وعمل الموظفين في بعض القطاعات من المنزل، على هذا النحو، انتقل التضخم عبر الاقتصاد على شكل موجات، بدءًا من سلع مختارة ثم ينتشر.

يقول "ويرنينج" إن هذا لا يعني أن التحفيز النقدي والمالي لم يساهم أيضًا في ارتفاع الأسعار، والأهم من ذلك أن إعادة تنظيم الاقتصاد كانت بمثابة صدمة العرض، ما أدى إلى زيادة التضخم عند أي مستوى معين من الطلب الكلي.

أفكار جديدة

العديد من هذه الأفكار ليست جديدة تمامًا، على سبيل المثال، قال "إيجرتسون" إن تجربة الأعوام القليلة الماضية أعادته إلى "القصة الخيالية الكينزية القديمة"، وإن نسخته من منحنى فيليبس مشابهة للنسخة الأصلية، ويشير "ويرننج" إلى خطاب ألقاه جيمس توبين، الاقتصادي الكينزي، في عام 1972.

ومثل "ويرنينج"، اقترح "توبين" أن الضغط التضخمي يمكن أن ينشأ من القطاعات التي تنمو وتتقلص بمعدلات مختلفة، ويرى "توبين" أن الجمع بين ذلك ومنحنى فيليبس غير الخطي يجعل من الممكن أن نتصور انطلاق التضخم حتى من دون وجود سوق عمل ساخنة.

ولفهم الكساد الاقتصادي، لجأ "كينز" إلى توماس مالتوس، وهو اقتصادي من القرن التاسع عشر، إن موقف فريدمان بشأن أسباب التضخم الأعظم يدين بالكثير إلى نظرية كمية المال، التي ورد ذكرها لأول مرة في النصوص الصينية القديمة وانتشرت في أوروبا على يد نيكولاس كوبرنيكوس، عالم الفلك في القرن السادس عشر.

والخلاصة قد يتقدم العلم بالفعل بجنازة واحدة في كل مرة، لكن الاقتصاد له بعثات.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية